في إحدى شوارع “محطة الرمل” التابعة لمُحافظة الأسكندرية، كُنت أجلس على إحدى المقاعد المُخصصة ل”محطة الترام” في انتظار صديقتي ولَفت إنتباهي أحدهم قادِم نَحوي، ذُو ثِياب بالية ومُتسخة وشارب كبير غير مُنتظم، وشعر كثيف مُجعد، يُمسك بِكُوب كبير يَحوي بعض المَعكرونة الجاهزة مِن أحد الباعة الجائلين، جَلس على مِقعد بمُحاذاتي جانب إحدى السيدات حامِلًا الكُوب بِيَد وكُتيِب صغير باليد الأُخرى.
كان يأكل حيناً ويقرأ حينا أُخرى، رأيت كيف تَبتعد السيدة عنه رويداً رويداً دُون أن تُشعِره بنُفورها، نظرتُ له بأسَى وسألتُ نفسي: هل كُل المشردون جاهِلون مَنزُوعون الإنسانية فقط لأنهم أصبحوا من أبناء ” الشارع” كما نُطلق عليهم أم أن مِنهم مَن هو مِثلنا ولكنه لم يَنعُم بمَأوى وأُسرة تَكفله؟
كان دَاخلي يبكي على حقه المَسلوب الذي جعل الناس يعاملونه كـ “كلب أجرب” ينفُر مِنه مَن ينفُر ويَبتعد عن طريقه مَن يخاف أذيته، ولكِني لن أتحامل على المَارة فيُمكن أن يكون لهم تجارب سَيئة مع أحد المُشردين المُصابين بأمراض عَقلية، ومَن مِنَّا لَم يُقابل أمثال هؤلاء وتأذى مِنهم بشكل أو بآخر؟!..
لن أكذُب.. أنا من أولائك الذين يخافون المُشردين خَشية أن يكون أحدهم مُصاب بمَرض عقلي ف يُؤذيني دون عَمد أو أن يكون أحدهم قد حوله “الشارع” إلي ذِئب مُفترس فينظر لي كأداة لسَد حاجته الجنسية وأكون مُعرضة حِينها للتحَرش أو الأغتِصاب، وأُقسِمُ أن قلبي يَرتجف من التخيُل فكيف إن حَدثتُك عن أولائك الذين نراهم في طريقنا ونبتعِد عنهم خَشية مخاوفنا هَذِه، وللأسف الشديد لم تكفل الدولة لكِلانا الأمان، فـ أنا وغيري من الناس الذين يَسيرُون بالطُرقات قد فَقدوا أمانهم بـ المخاوف التي تُطاردهم وذِكراهم السَيِئة مع هؤلاء المُشردون، وهُم قَد فَقدوا أمانهم بأن يَحيوا بين حَوائط بَيت يُؤيهم ويستُر عَورتهم ويُساعدهم لقضاء حوائجهم ومن ثم الخُروج للعالم دُون خوف من أحكامه القاسية ومُسايرة حياتهم كما يَحيا أي إنسان مِنَّا..
قررت أن أكسر مَخاوفي تِلك المرة وأنتهز الفُرصة وأُحاول أن أتكلم معه، أريد أن أسأله الكثيرُ من الأسئلة ولكن مخاوفي تَمنعني حتى وإن كُنَّا في ذُروة الصباح والمكان يَعُج بالكثير من الناس، مع ذلك تجرأت أخيراً وتَرجلت خَطوتين حتى وَصلت أمامه، ألقيت عليه سلام الله ليَستكين كُلاً مِنَّا ويترُك مَخاوفه التي سببها المُجتمع لكِلانا، رَد التحية في سُلم ونظر لي في تَرقب، قُمت بتقديم نفسي بشكل مُبسط، إبتسم وقال وأنا اسمي (أ)، وبعدها أشرت إلى كِتابه أنه قَد أثار فُضولي كَثيراً فما إسمُه؟ حينها أخبرني اسمه ثم بَدَأ في التحدُث عن قِصصه بشَيء من البساطة المُحببة للقلب، سَكت لثَوانٍ ونظر إلى المكان الخالي بِجانبه ثُم نَظر لِي سَائِلاً: هل سـ تجلسين أم لَازِلت خائفة؟
دَهشنى سُؤاله كثيراً فـ قُلت: ولِمَ أكُون خَائفة وأنا مَن بَادرت السلام؟
تَنهد وقال: ” قَد أكُون مُشرداً ولكِني إنسان، أقصُد أنني أستشعر الخَوف في نُفوس الجميع من حولي!
أعرف أن ثِيابي المُتسخة هَذِه وهيئتي القذِرة قد تُنفر الأطفال الصِغار قبل أباءِهم وتُثيرُ الرُعب في نُفوس الفتيات الحسناوات مِثلك، فخوفك طبيعي حتى وإن حاولتي تَجاوزه للوُصول إلى مُبتغاك.”
تَلَجَم الكلام كـ العُقدۃ في حَلقي، تابع كَلامه بنَبرة هادِئة: بالطبع الكثيرون يَظُنون أن المُشردين هُم كائِنات مُنزعة آدميتها، تَعيش كـ الحيوانات، تبحث عن الطعام والشراب طُوال النهار ثُم تقضي حاجتها في أقرب مكان يَبعُد عَن أعيُن الناس ورُبما تقوم بكُل هذا وتنام في نفس المكان، ثم أطلق ضحكة مُعتسرة “كـ الحيوانات تماما، أليس كذلك؟” ولكن تعرفين (نظر لي وعيناه تُرغرغ قطرات دَمعٍ يُحاول جَاهِداً حَبسها) وأردف قائِلاً: ولكِن الحيوانات هَذِه تشعُر وتتألم وتتمنى لو كان لها الحق في العيش مِثلكم..
سَكت ووضع كوب المَعكَرونة بجانبه ومسح فَمه وشارِبه بيديه ثُم جففها في ثِيابه وتابع النظر إلى الكُتيب مَرة أُخرى وكأن لم يحدث أي شيء، لم أُحادثه ولم أجلس لأثبت له خَطأ إعتقاده، شعرت بأنه ليس هُناك جَدوى من مُناقشته في الأمر، فإن عَززت رأيه ودافعت معه عن حقه المَهدُور فهل هذا سـ يُجلب له الحق ويحيا حياة طيبة مِثلنا؟ أم سـ يبتسم إبتسامة رِضا ويمضي كِلانا في طريقه أقصُد مُعاناته ولكِن مُعاناته هو من نوع قَاسٍ وأشَدُ عُسراً..
سِرت في طريقي حَاملة خيبة أملى وراء ظهرى.
حتى كُل الأسئلة التي كُنت أحمِلها في جُعبتي طُوال ذلك الوقت والتي جَعلتني أكسر رَهبتي وخوفي قد تَبخرت كُلها في الهواء، فـ كُل الأسئِلة أجوبتها واضحة أمامنا ومُتمثلة بأغلب الطُرق والشوارع فـ ماذا فَعلنا حينها؟ هل نظر أحدنا بشفقة وقام بـ مَط شَفتيه وحَمد الله على حاله؟
هل يكفي إن أخرجت قطعة من النُقود المَعدنية وأعطيتُها لأحدهم يَقطُن بإحدى الرُصفان سـ يجلب له ما يَسُد حاجته من الطعام والشراب ولو ليوم واحد؟ وإن سَده ليوم فماذا عن بَقية الأيام؟!
الشتِاء! اللعنة !
كيف يُواجهون هؤلاء برد الشتاء ويتحملون السَقيع والأمطار دون مأوی؟!!..
يا إلهي.. الكَثير من الاسئلة قد تدافعت مرة واحدة أمام عقلي والكثير من المَشاهد قد تزاحمت أمام عيني لـ أطفال يَجلِسُون على أحد الرُصفان ويَستندون بظُهورهم على جوانب إحدی الحوائط إحتماءا من قسوة الشِتاء بينما يركض هذا إلى سيارته وتِلك إلى منزلها وهذا إلى عمله..
الكثير من الـ “ماذا لو؟”
وإن كان ذلك حال شاب ثلاثيني راشد، فـ كيف بِـ حال الأطفال المُشردين؟
ماذا يُواجهون بالشارع وما قد يتعرضون له من أخطار أشَّدُ مِن تَشريدهم وفَقدِهم لمعالم الحياة الانسانية؟…
رجعت إلى بيتي مُحملة بـِ جُرعة مِن اليأس لا مَثيل لها. قمت بتحضير قهوتي وأنا أنظر لجُدران بيتي، إلى الحوائط والأثاث، مكتبي وهاتفي وحاسوبي المَحمول الذي أكتُب عليه كل ما يدور هُنا برأسي.
انتهيت من تحضير قهوتي ورُحت إلى غُرفة أمي أختَلِس نَظرة إليها وهي غارقة في نومها وبِجانبها كتاب الله وبعض الورق المَطبُوع خاص بأدعية تقرأُها
مَتى أصبحت وقبل ما تغفُو عيناها؛ طبعت قُبلة هادئة على جَبينها ثُم أغلقت الباب واتجهت إلى مَكتبي.
وَضعت كُوب القهوة على المَكتب بعدما أرتشفت منه بعض الرشفات علی مَهلٍ ثُم قمت بفتح الحاسوب، لَازال وضعه على برنامج الخاص بالكِتابة، شعرت بـ غُصة هُنا بـ حلقي ووجع يندرج بصدري أستشعره كـ البُركان يَستعِد لإنفجاره. تركت العنان لأنامِلي عَلَّها تُزيح بـ كَلِماتها ثُقل ما بداخلي… – عن أي مُعاناة نتحدث نحن؟ أقصُد أن لَدى كُلا مِنَّا الكثير مِن النِعَم والعطايا ولكِننا نتعامل معها بإعتيادية قد أفقَدت كُلاً مِنَّا الشُعور بأن لَديه ما يحمد الله عليه كُل يوم! البيت نعمة.. فهُناك من يتمنى أن يَملُك أربعة حوائط وسَقف يَؤويه ويَستُر عَورته ويحميه من بُرودة الجو أو حرارته العالية.. الأسرة نِعمة..
فـ كيف ما كان حال أهل بيتك، إن كانوا أُناس لا يُعاشرون أو حتى لديهم من القَسوة ما يُنَغِص عليك حياتك، فـ هُناك أحدهم يتمنى لو كان لديه عائلة أو حتى لَقب يحمله حتى لا يَنعُته أحداً بـ “إبن الشارع” وما أدراك ما قَسوة أن تكُون بِلا هَوية وبلا إنتماء! التعليم نعمة.. فمهما كان درجة تعليمك الأكاديمية أو حتى المُتوسطة فـ لطالما كان لَك حَظاً في التعلُم وقادِراً على القراءة والكتابة فأنت بـ يَدِك أن تُكمل الطريق وَحدك وأن تسعى إلى ما تُريد مهما كان الطريق عَسيراً وغَير مُمَهدً؛
فـ هُناك طِفل صغير يَقطِن بإِحدى الأنفاق يَحمل حقيبة تمتلِئ بأكياس “المناديل” الصغيرة يقوم بـ بيعها وبجانبه كِتاب وقَلم، يسعى لـ يُكمِل تعليمه ويأمل من الله كُل الأمل أن يَجلب النُقود لـ يقوم بِصَرفها على ما يَستلزمه ولا يقدر أهله على سده؛ فقط لـ يتعلم!.
كُل تِلك النِعم تَغيب عن عُقولنا لأننا نتعامل معها على أنها طبيعية التَواجُد ثُم نَلتهي بِما ليس بِحَوزتنا وننظر لـ نِعَم الآخرين ولا نَدرى أن لـ قِسمة الله سَبب وأن الحَمدلله على ما نملُكه وقد إلتهينا عن الشُكر عليه وجَزِعنا عَمَّا حرمنا مِنه وسِرنا بِما أخذ شكايين غير حامدين ولا راضين..
– لا بد أن يكون كُلا مِنَّا على يَقين أن المُشردين بـ الخارج هُم بَشر مِثلي ومثلك تماماً، لم تُنزع إنسانيتهم جميعاً وأن ليست الدولة وَحدها المَسؤولة عن مِثل هؤلاء وإن كانت لها المُسائلة عن حَقهم في أن يحيوا حياة آدمية غير مُعرضين للأذى ولا عارضين الأذى على الناس من حولهم؛ وأن هُناك حَق ضائِع يَصنع تِلك الفَجوة بيننا في كُل شيء، بِدءَاً من المَنظر الآدمي المقبول إلى الحق في وُجود مأوى لهُم ومِن ثَم توفير مَصدر لـ جَلب الرِزق غَير بالسائلين لصَدقة أو المُتسولون في كُل مكان..
ولكن.. ويا كُل إنسان يقرأ كَلِماتي هَذِه! كُن حَذِراً، فـ أنت على مُسائلة أمام الله مَعهُم عن هؤلاء، أين حقهم من رزقك؟! نعم.. نحن وللأسف نتعامل مع أغلب المُشردين وتَحديدا الأطفال السائلة لـ حاجة أو طعام والعواجيز الداعين بالخيرات سائلين بعض النقود؛ على أننا نَنعُم عليهم بـ بعض القِطع المُعدنية ولا نعلم أنه حَق على كلاً مِنَّا أن يعطى مِثل مَا أعطى الله له!
فـ حينما تقوم بِعَطاء ما لأحدهم، كُن حريصاً على مشاعره، أساله الدُعاء فـ رُبما لَك حاجة عِند الله ولم تحُقق بينما كان يَختبرك بوضع أحدهم في طريقك “هل سـ ترُده؟”، كيف إن كانت إجابة طَلبك مُتمثلة في عَطاءك لفقير أو محتاج مِثله، ألن يَسعد كِلاكما بِحق السماء؟ كُلنا نعلم أن العالم بالخارج شَديد القسوة ومُفجع المُفاجآت والحوادث،
وأنا لا أقول لَكَ أن تُلقي بـ نفسك إلى التَهلُكة أو أن تُجازف بـ تعريض نفسك لأحد لا تعرفه قد يُؤذيك ويُفقِدُك أمانك، ولكِني أطلُب مِنك أن تكون أكثر إنسانية بِجانب حِرصك هَذا، واتبع حَدسُك وشُعورك، فإن كان هُناك سَائِل يَبدو أنه لن يُضير الإقتراب مِنه وبِحَوزتك ما يَفيض عن حاجتك فـ قُم بمُساعدته دُون كِبر وتَكلف بَل واعتذر له إن لم يُكفي معك ما يُكمل ثمن “رغيف عيش” قد يَسد جُوع أحشائه!
أنا أطلب الإنسانية من الجميع ولا أستثني أحَدَاً؛ فـ كُلنا مَسؤولون كـ مُجتمع ومُؤسسات وأصحاب أعمال ، إنتهاءا بـ كوننا جميعاً أناس عاديون، أبناء جِنس واحد ولا داعي لـ تَفضيل أنفُسنا على أحداً فـ ستُغطينا نَفس التُربة يوماً وسيُقفل علينا ذَات الباب.